عامل سيارة القمامة
2024/01/27
 
333
ضياء المياح
تعَود أهالي بغداد على سماع الصوت العالي لمنبه سيارة رفع القمامة. كان هذا الصوت يغطي مساحة تصل كيلومتر مربع كامل، وينُبه السامعين في بيوتهم أن استعدوا لمَقدم هذه السيارة. في أحد الأزقة التابعة لبلدية الرشيد في بغداد، يكون الكل متهيئا لاستقبال سيارة القمامة؛ إذ يخرج من كل بيت رجل أو أمراه أو طفل ويلزِم مكانه قرب سلة المهملات الخاصة به، منتظرا وصول سيارة القمامة وممسكا ورقة نقدية بيده لغرض تسليمها مجبرا إلى العامل الذي يرفع القمامة من سلال القمامة إلى تلك السيارة.  
انتظار وصول سيارة القمامة قد يطول لدقائق عديدة، لهذا عليهم أن يظلوا في حالة استعداد وتأهب لحين وصول سيارة القمامة قريبة منهم. كانت سيارة القمامة تلف وتدور بين الأزقة ببطء شديد وصوت منبهها الهادر يملأ الأزقة. وفي أحيان كثيرة، كانت هذه السيارة الكبيرة تقطع الطريق أمام السيارات والمارة، فيضطر أصحاب السيارات إلى اتخاذ طرق بديلة، أما المارة فعليهم أن يتأخروا في مسيرهم لحين مرورها أو يبتعدوا عن سيارة القمامة الزاحفة بين سيارات الأهالي المتراصة على جانبي كل زقاق. 
عامل سيارة القمامة يعمل في هذه المهنة منذ عدة سنوات ولديه راتب شهري مجزي لعمله، إلا أنه غير مقتنع بهذا الراتب، ولهذا تراه يجمع المال من أصحاب البيوت التي يرفع قمامتها. هو يملك بيتا في السيدية لزوجته الأولى وبيتا ثانٍ في البياع لزوجته الثانية وعمارة في حي العامل وسيارة دفع رباعي حديثة الصنع. كما أستطاع أن يشتري بيوتا بمساحات صغيرة لأولاده الثلاثة المتزوجين في مناطق متفرقة من كرخ بغداد. ثروته تجاوزت المليار ونصف المليار دينار عراقي.
ورغم ما يملك، إلا أنه ما زال يشعر بالغبن ولم يأخذ استحقاقه بعد. فأخوه الأصغر يملك أكثر منه رغم عمله كموظف مُبلغ في محكمة البياع في بغداد. أخوه لديه بيت في المنصور وبيتين في السيدية ومحلات تجارية في البياع وسيارتين دفع رباعي حديثة الصنع ويسافر خارج العراق أكثر من ثلاث مرات في السنة الواحدة. لهذا فعامل القمامة مصمم على أن يكون أغنى من أخيه خلال السنوات القادمة. وليس لديه طريق غير تحصيل مبالغ أكثر من أصحاب البيوت عن القمامة التي يرفعها عنهم في السيارة الحكومية للقمامة. ومن ما يتحصل عليه هذا العامل فإنه يدفع حصة الموظف المسؤول على عمله ويقوم بتصليح سيارة القمامة الحكومية على حسابه الشخصي إن تعطلت باعتبارها (وليس الراتب الشهري) مصدر دخله.
رغم كل ما يملك، كان عامل سيارة القمامة يرتدي ملابس رثة تناسب طبيعة عمله كل يوم ويستلم من أصحاب المنازل مبالغ نقدية رغما عنهم ليرفع عنهم قمامتهم. كان بعض الأفراد يحملون قمامتهم بأنفسهم ويضعوها في السيارة، ومع ذلك يدفعون المبلغ المقرر عليهم. وفي كل مرة، ينظر العامل إلى ما يدفعه كل شخص، فإن كان مائتان وخمسون دينارا يمتعض وجهه ويتأفف ويطالب بالمزيد في المرات القادمة. أما إذا كان المبلغ خمسمائة دينار، فيبدو راضيا ولكنه يطمع بالمزيد. وفي حالة استلامه مبلغ ألف دينار، تنفرج أسارير وجهه وتظهر عليه علامات الرضا بوضوح. بعض المنازل لا يخرج أحد منها ، فيهملها العامل وان تراكمت القمامة في سلالها متجاوزا اياها إلى البيوت الأخرى التي يستعد أصحابها لدفع المال. 
ولهذا من لا يدفع المطلوب، تهمل قمامته. حدث ذات مرة أن أشتكى عليه صاحب احد البيوت بسبب عدم حمله قمامة بيته لعدة أيام حتى تكدست وظهرت رائحة نتنة منها. كانت هناك موظفة تجيبه عبر الهاتف وتسجل شكواه. أنتظر أيام ولم يتغير شيء ولم ترفع القمامة من أمام منزله. عاد وأتصل مجددا بنفس الموظفة التي أخبرته بأنها نقلت شكواه إلى أصحاب العلاقة وأنها ستعيد ارسالها مرة ثانية ونصحته بأن يراجع بنفسه. أيقن إن مثل هذه الشكوى لا قيمة لها وإن المسؤولين في دائرة بلدية الرشيد غير مهتمين بمثل هذه الشكوى.    
 حينما رأى صاحب الشكوى عامل القمامة بعد ذلك، سأله عن سبب عدم رفع القمامة لأكثر من أسبوع. أنكر العامل ذلك وأكد له أنه لم يتأخر في رفع القمامة المكدسة في كل مرة. بل إن العامل عاتبه لأنه لم يراه ولم يستلم منه شيئا منذ فترة طويلة. أجاب صاحب الشكوى؛ بأنه سيستقيل من عمله قريبا. تعجب عامل القمامة وتساءل عن السبب، فقال له حتى ينتظره ويراه كلما جاء لرفع القمامة ويعطيه المبلغ المطلوب. ضحك العامل بصوت عال وأستلم مبلغ الألف دينار ودسها في جيبه لينصرف إلى بيوت أخرى ويستلم مبالغ جديدة عن رفعه القمامة.
الاستبيان
برأيك ايهما افضل؟