في ذكرى عزالدين سليم
2022/05/16
 
176
ابراهيم العبادي
ظهيرة يوم بارد من ايام كانون الاول عام 1981 وفي بناية  المركز الاسلامي للدراسات السياسية بطهران كان لقائي الاول بعزالدين سليم (1943-2004) (الحاج ابو ياسين )،بطلاقة وجه وسماحة بصرية معهودة استقبلني بعد ان  قدمني عمي اليه :هذا ابن اخي وصل للتو من العراق وقد افلت من بين  اشداق الموت ،كان عمي قد ذكر لي انه سيعرفني على اهم شخصية من شخصيات خط البصرة - الفرع المنشق عن حزب الدعوة الاسلامية بعد مؤتمر الاهواز (1981) الذي عقده الحزب ، وأسفر عن اختيار قيادة للدعوة  لم يكن من بين نجومها  رجل الحزب الاول محمد هادي السبيتي المقيم في الاردن  ،يومها تم حسم الخلافات بطريقة الالزام الشرعي وفتوى فقيه الحزب  ،فادى ذلك الى خروج كوادر وازنة لها ثقلها الحزبي والمعنوي برئاسة ابي ياسين والشيخ علي الكوراني ،مالبث الكوراني ان انسحب لاحقا ليقاد التنظيم المنشق  عبر جماعة كان  ابو ياسين ألمعهم وابرزهم .
من يومها كُتب للدعوة تاريخ جديد ،وصار ممكنا الحديث بالمصطلحات السياسية الحديثة عن جناح (يساري ) لم يقبل دخول المؤتمر ولا بنتائجه التي ادت الى تهميش السبيتي وهيمنة مجموعة من رجال الدين على قيادة الدعوة تُصنف ضمن الاتجاهات الدينية  المحافظة ،وانها جاءت لتلغي تأثيرات السبيتي تدريجيا بعد ان اتهم من قبل الاخرين بأنه اقل شيعية واكثر تأثرا بالفكر التحريري والاخواني ،كما انه لم يكن يخفي نقده لبعض الزعامات والشخصيات  الدينية .
تعرض السبيتي لنقد (هامس )من بعض الذين كانوا يشاركونه القيادة الجماعية ليس لعدم كفائته وسعة افقه وعمق قراءته للاحداث ،بل لخطابه الاسلامي غير التقليدي الصادر من عقل غير حوزوي ،ترتب على هذا الانشقاق ان المنشقين صاروا معروفين بخط السبيتي أو خط البصرة لغلبة كوادر الدعوة البصريين عليه .
منذ ذلك التاريخ والدعوة تعيش تاثيرات هذا الانقسام فكريا وسياسيا رغم تلاشي  فروع الدعوة وضعف تيارها العام  .
في الكاظمية وعلى اضواء الشموع مساء يوم 22-7-2003 التقيت بابي ياسين في فندق البراق بعد سقوط النظام البعثي ،كان عائدا للتو من اجتماع لمجلس الحكم جديد التأسيس ،وفي سهرة مطولة مليئة باسئلة الشجن والقلق  ،واصل ابو ياسين البوح بمخاوفه على مصير بلده المنكوب ،ابدى خشية بالغة من السياسة الامريكية ومن اطروحات بعض زملائه في مجلس الحكم ، وجدته حاد الذكاء وقاد الذهن كأنه يواصل مسيرة السبيتي ويذكرني بقراءة (يسارية) لمألات الامور ،تخوف من الطائفية ،ومن العنف المجتمعي ومن سوء الاداء وعدم القدرة على تقدير المخاطر ،ابدى خشية من بعض التوجهات الراديكالية التي بدأت  تتمظهر ،كان يقول ان  الحطام الذي تركه نظام صدام  يحتاج الى روية واعتدالا في المعالجات ،وجدته يستحضر ثورة العشرين ونتائجها السياسية ليعيد تذكيرنا بان دروس تلك الايام ينبغي ان تكون حاضرة ،فلايجوز تضييع الفرصة لبناء حياة سياسية جديدة تعيد الى التعددية العراقية صورتها التاريخية . 
خاض  ابو ياسين خلال عامه الذي قضاه بعد عودته الى العراق ، معركة غير مكتملة في عالم العراق المضطرب ،كان عليه ان يقنع جمهورا ضائعا تائها بأن مسيرة بناء الدولة وترميم جراحات الوطن لن تتم بين عشية وضحاها ،فقد كان مدركا لصعوبات المهمة وواقعيا في فهمه لانماط الرجال الذين عاصرهم وصاروا يتنافسون على مواقع السلطة في العراق الجديد ،لسان حاله كان يقول ان ليل العراق سيطول في ظل سذاجة سياسية ومراهقة كانت تحرق المراحل ،تتعجل قطف الثمار دون ان تكتنز وعيا بمخاطر المرحلة .
ربما لايسجل اسم  ابو ياسين في سجل  رجال السياسة اللامعين في العراق لقصر فترة ممارسته السياسة من موقع السلطة  ،غير انه  بقي وفيا لسمت شخصيته المتواضعة واعتدال فكره مع  مسحة (اليسارية) التي تغلف  افكاره وسلوكه السياسي ،تحسن الاشارة الى انه كان يفكر بالفقر بوصفه افة الافات التي ستحرق  الاجتماع العراقي ،كتب عن الفقر في نهاية السبيعنات حينما كان نزيل الكويت مطاردا ومهاجرا ،ثم عايش فقر العراقيين في مخيمات ايران ومدنها العتيقة قبل انتفاضة عام 1991 وبعدها ،ثم كانت صور الحرمان والقمع والحصارات تؤرق حياة العراقيين وتدفع بهم نحو تيارات دينية وسياسية كان الكثير منها يستبطن نزعة الثورة والتمرد والتطرف ،لهذا كان (الحجي ) يقرأ الواقع بخلفية اجتماعية ودراية بالموروث السياسي العراقي ذي النزعة الثائرة ،لكن مامن احد من زملائه الاسلاميين كان يفكر مثله ويأخذ تنبؤاته وتوقعاته وحدسه قيد التفكير الجاد ،ربما كان لتنشئته الترابية وسعة قراءاته التاريخية وذوقه الاجتماعي عميق الاثر في تشكيل نمط تفكيره ،فماهو معروف عنه انه كان يفكر خارج (الصندوق )في كثير من الاحيان وهذه تحسب له ، فهو  لم يقع في اسر القوالب الحزبية وانماطها الجامدة ،انه ابن الواقع العراقي ذي النزعة الوطنية والتدين الشعبي والانفعال السياسي ،فرغم اسلاميته وتدينه لكنه لكنه رفض الانصياع للاجواء الفكرية والسياسية التي تشكلت في ايران بعد الانتصار  ،  كانت الحزبية الاسلامية المهاجرة موضع تشكيك مالم تدخل في نطاق الولاية (واذرعها ونطاقاتها )التي مثلتها شخصية قائد الثورة الاسلامية السيد الخميني الراحل .
جادلته يوما في عام 1987 عن امكانية قبول الاحزاب الاسلامية العراقية بممثل للامام الخميني ينجيها من لغط التشكيك والنبذ والمضايقات ،رفض بشدة  كأنه كان  يقرأ مضاعفات ذلك على صورة العراقي المهاجر حينما تحاصره (المديونية السياسية )كما يسميها زميلنا الكاتب علي المدن ،قد يكون ابو ياسين قد قرأ المستقبل بعيون (الوطنية العراقية) التي تشتد الحاجة والدعوة اليها هذه الايام ،مادفع زميلنا الاخر رفيق رحلة الكتابة والمعاناة جواد علي كسار ليفرد لها كتابا مقارنا بين الوطنية العراقية وبين تجربتين  اسلاميتين معاصرتين هما تجربة ايران وتركيا .
للانصاف والتاريخ فقد كان ابو ياسين يتحدث عن الوطن الاسلامي بالمفهوم الديني وليس بمفهوم الفكر السياسي الحديث ،غير ان الواقعية السياسية وضرورات التجديد والتطوير للفكر السياسي الاسلامي حتمت مقاربات جريئة مبكرة تأخذ خصوصية البلدان وهويتها السياسية وتعريفها القانوني اخذا لالبس فيه ،فأن تكون اسلاميا لايمنع ان تكون وطنيا بمعنى تقديم مصالح وطنك مثلما لايجد الاخرون غضاضة في ذلك دون ان يقدح باسلاميتهم .
 طار خبر مقتل رئيس مجلس الحكم العراقي عزالدين سليم في الاجواء يوم 17-5 2004 ،كان قتله المدروس قتلا للحلم العراقي ، فعلاوة على شمائله وشخصيته الدافئة المحببة الى الناس ،فانه كان يحمل مشروع التسامح الذي افتقده العراق في مواجهة تعصب شامل ديني وقومي  ومذهبي وحزبي ومناطقي بدد كل مابناه العراقيون  ، كان  هذا (الرئيس )ساعيا  بجد الى  عراق خال من التشوه المتراكم الذي كرسته نخبة سياسية لم تقرأ  تجارب التاريخين العراقيين ،القديم والحديث . تسامح عزالدين سليم تكويني معرفي ثقافي ،جسد تاريخ البصرة المكتنز بالافكار الانسانية والتراث الابداعي والشخصية السياسية السلسة الخالية من العقد والتمركز على الذات ،للمكان دخل في سياسات السلطة كما يقول الفرنسي بول كلافال ،انتفع العراق والعالم من البصرة معرفيا واقتصاديا لكنه لم  يجرب اخلاقيات وحكمة البصرة السياسية (حكمة اخوان الصفا وخلان الوفا ) ماخلا سبعة عشر يوما ترأس  فيها ابو ياسين مجلس الحكم .
الاستبيان
برأيك ايهما افضل؟