القوانين النفسية لتطوير الشعوب
2022/01/27
 
162

علي حبل المتين

 

مرةً أخرى أعود إلى ( غوستاف لوبون ) وآرائه بعدما قرأت له "سيكولوجية الشعوب وروح السياسة"  عدت وكلي شغف لكسب مزيدًا من علم النفس وكيف تفسر دراسته طبيعة الشعوب بصورة منطقية، الشعوب وبصورة عامة عانت وبكل وحشية من الاستغلال والسرقة والتهميش وإلى آخر البلاءات، يضع بين أيدينا المتخصصين في علم النفس الاجتماعي نظريات نحن في أمس الحاجة لمطالستها، نختصر ما جاء في هذا السفر ونترك التوسع للقارئ الكريم أن واتاه ما نكتب في عدة أسطر وأني أنصح بقراءة كتب لوبون وعلى مقدمتها هذا السفر الرائع...

بعدما كان الشعب العراقي العظيم مثلًا للتطور العلمي والمعرفي كانت مؤسساته العلمية هي الرصينة عَالَمِيًّا، بينما كنا نكتب ونصدر للخارج معارفنا وعلومنا كانت دول الخليج العربي تحاول ركب قطار الحضارة، لكن المؤسف عندما تعرضنا للانكسار والخيبة تآمر علينا الجميع فنهبوا خيراتنا وسرقوا تراثنا ونحن كنا الأوائل في تقديم يد العون والمساعدة هذه هي السياسة والمصالح لاترحم أحد، لكن سنعود...

سنعرف لماذا تخلفنا إذا عرفنا أن لكل أمة مزاجًا عَقْلِيًّا ثابتًا كثبات خواصها التشريحية وهذا المزاج هو الذي تصدر عنه مشاعرها وأفكارها وأنظمتها ومعتقداتها وفنونها، ما حياة الأمة أعني أنظمتها ومعتقداتها وفنونها إلا اللحمة الظاهرة من نسيج روحها ولا يتسنى لأمة أن تغير أنظمتها أو معتقداتها أو فنونها إلا إذا غيرت روحها، فتختلف بذلك مدنيتها ومعتقداتها وفنونها وليس من المُسلم جمع الأسباني والإنكليزي والعربي في نوع واحد لأن الفوارق العقلية الموجودة بينهم بادية لكل ناظر تقرأ مسطورة في كل صفحة من تواريخهم...

لكل أمة دخلت في ميدان الحضارة وأصبحت ذات تأريخ قديم يجب اعتبارها أمة صناعية لا أمة طبيعية مهما كانت حالها أعني سواء اتحدت عناصرها أم لا، إذ الأمم الطبيعة لا يكاد يكون لها وجود في العصر الحاضر اللهم إلا في البلاد المتوحشة هناك يتيسر العثور على أمم خالية من الخليط...

لوحدة المزاج العقلي عند جمهور كل أمة أسباب بسيطة معروفة في علم وظائف الأعضاء فالواقع أن كل فرد ليس ثمرة والديه وحدهما بل هو أيضا ثمرة أمته وسلسلة أجداده ومن أهم التأثيرات هي أولها وأشدها تأثيرا عامل الأجداد والثاني تأثير الوالدين والثالث تأثير البيئة وهو أضعفها لان البيئة وما يندرج تحتها من المؤثرات، لأنها تعظم إذا توالى أثرها بالتناسل زمنًا طويلًا، كما أن وحدة المشاعر والأفكار والمعتقدات والمنافع الناشئة من مرور الدهر تقوي في الأمة وحدة المزاج العقلي وتزيد في ثباته وتحصل للأمة سلطانًا كبيرًا وبهذا بلغت روما أوج عظمتها في غابر الزمان...

لا تتغير صفات الأمة الأساسية حتى في أشد أوقات الاضطراب والمحن التي تظهر فيها الأمة مظهر التغيير الكلي في شخصيتها وغاية ما هناك أن تلك الصفات تبدو في ثوبها الأول فلما أراد أهل الثورة أن يقضوا على طريقة الحكم السابق وضعوا للأمة نظامًا قبضت فيه السلطة العليا على جميع اختصاصات الحاكمين...

خلق الأمة هو علة تطورها في حياتها وهو الذي يقرر مستقبلها وهو موجود على الدوام خلف العوامل التي فرضها الناس سببًا لأعمالهم فقالوا بالاتفاق وهو لا حول ولا قوة له وبالرحمة وهي أمر خيالي وهكذا مما اتخذته الأمة ناموسًا في حياتها على حسب اختلاف المعتقدات، فالأمم تموت متى ضعفت صفات خلقها التي هي نسيج روحها وضعف هذه الصفات يكون على قدر حظ الأمة من الحضارة والذكاء؛ والمتأمل من أحوال الأمم يرى أن أفراد كل واحدة منها وأن افترقوا كثيرًا من جهة العقل يكادون لا يفترقون من جهة الخلق الذي هو الصخرة الثابتة رغم تقلب الأزمان، وينبغي عند البحث عن أمة ينظر إليها من جهتين فهي لا قيمة لها من الجهة العقلية إلا بالنبغاء  وهم قليلو العدد فقيمة الأمة تقاس بطبقتها الوسطى دون غيرها لان قوة الأمة تابعة لهذا الوسط...

متى مالت الحضارة إلى الذبول وأصبحت فريسة المغيرين عليها من طريق الهدوء والسلم أو من طريق العنف والقوة في الأمة أخذ أثر التوالد يظهر وجعلت أخلاقها تتحلل وتتركب فتهدم الحضارة أولا لتهدم روح الأمة ويخلو السبيل لقيام حضارة جديدة بعد تحلل الأخلاق النفسية القديمة وقيام أخلاق جديدة على أطلالها، وليس من الأمم الحاضرة أمة تمكنت من إخضاع أمم مختلفة عنها كل الاختلاف إلا الإنكليزية وهم أنما نجحوا في ذلك بعدم تعرضهم لعادات تلك الأمم وأخلاقها وشرائعها وبتركهم إياهم في الواقع يحكمون أنفسهم بأنفسهم مكتفين من السيادة بسهم من الضرائب، ذلك الروح الذي يجري في بالأمم إلى غاياتها يجري بالديانات أيضا إلى مصايرها كما يؤثر في الأنظمة وفي الفنون وهو أمامنا في كل عنصر من عناصر المدنية، أصبح في كل أمة عدد كبير من العناصر المنحطة التي لا قدرة على احتمال حضارة زاد رقيها عن طاقتها وهذا التحليل كل يوم في ازدياد...

كل طراز يمثل خيال أهل زمانه ولما كانت الأزمان متغيرة وكذا الشعوب على الدوام فمن المسلم أن الخيال يتغير بتغيرها وتستوي الخيالات كلها في نظر الفلاسفة لأنها ليست إلا علامات وقتية وعليه فالفنون مظهر من مظاهر الأمة لأفرق بينها وبين غيرها من عناصر المدنية ولكنا لا نرى فيها الميزان العدل لأفكار جميع الأمم على السواء...

 

 ليس لمذهب من المذاهب الأهمية إلا بمقدار تأثيره في نفوس المختلقين به أما ما فيه من صواب أو خطاء فمسألة نظرية لا تهم إلا الحكماء ومتى دخل مبدأ في أذهان العامة وجب الخضوع لنتائجه كلها صوابًا كان المبدأ أو خطأً، ومن أجل ذلك نرى أهل مذهب المساواة يسيرون في تقريره من طريق الأنظمة والتعليم ويطمعون بذلك في تقويم مظالم النواميس الطبيعية، فمن المحقق أن خيالهم لن يتحقق غير أن التجارب وحدها هي التي برهن على ما ينجم عن الخيالات من الشرور، أما العقل فليس في استطاعته تحويل الناس عن معتقداتهم، أقل تغير يطرأ على معتقدات الأمة يجر وراءه تغيرات عدة بعضها إثر بعض...

 الأنظمة ثمرة الحاجات ومما لا شبهة فيه أن إرادة جيل واحد لا يمكن أن تؤثر فيها، فلكل أمة ولكل دور من أدوار تطور هذه الأمة أحوال خاصة في كينونتها ومشاعر وأفكار وآثار موروثة، وهكذا ينهض من خلال ذلك النقص الفادح الذي نراه في تاريخ حضارة الأمم تطور بطيء في معارفنا نرجع فيه بين العصور الماضية والأمم الخالية حتى نصل إلى فجر الحضارات الأولى والعلماء يحاولون الآن الرجوع بذلك أيضا إلى الزمان الذي لا تاريخ فيه...

 لاختلاف الأمم في المزاج العقلي يتعذر بقاؤها كلها تحت سلطان نظام واحد زمنًا طويلًا وما خضع الإنكليز العرب لقانون واحد إلا بتكبد المشقات واحتمال ثورات تتجدد من حين إلى حين...

 إذا اختمرت المبادئ أصبح أثرها حقيقي في روح الأمة إلا إذا اختمرت على مهل ونزلت من أعالي النظر العقلي إلى عالم المشاعر المستقر اللاتنبهي حيث تتكون دواعي الحركة الإنسانية، إذ ذاك تصير المبادئ جزءاً من الخلق، ومن المبادئ التي يقوم عليها بناء الحضارة ما تبقى مزيته الطبقات الراقية كالتي تقوم بها الفنون والفلسفة ومنها ما ينزل حتى يبلغ أسفل الطبقات كالدين والسياسة، متى قطع المبدأ أدوار التعثر والتحور والتغير والجدل والانتشار واستقرت صورته الأخيرة ودخل في روح الجموع صار عقيدة لا يصل إليها الشك...

 أكبر المحسنين لبني الإنسان الذين يجب على الأمم أن تقيم لهم أفخم التماثيل من الذهب والوهاج هم أولئك السحرة القادرون الذين خلقوا لها الخيالات الذين أقاموا سيول الأمم الفانية، أن العظماء المكتشفين يعجلون من سير المدنية والمتعصبون والمهووسون يخلقون التاريخ.

الاستبيان
برأيك ايهما افضل؟