عدنان شاكر
يتعمد الطرف الأقوى أن يوهم الطرف الأضعف إنه قادر على تحديه وتحقيق أهدافه ، ولكنه في حقيقة الأمر يستدرجه لتحقيق أهدافه الإستراتيجية ذات المدى البعيد ، وعندما ينتهي منه يقضي عليه أو يستبدله بنظام جديد أو يتركه يتلاشى لوحده .
إثنان وأربعون عاماً سمحت الولايات المتحدة الأمريكية لإيران للقيام بكل ما تحلم به في المنطقة العربية ، فالإستقرار مرفوض لأنه ينفي حاجة العرب إليها . فحولت إيران من دولة حليفة الى دولة مارقة ، فهي من أسقطت نظام الشاه الحليف لها ولإسرائيل ، وهي التي أحضرت الخميني من باريس بطائرة خاصة ، وهي من دفعت صدام حسين لحرب الثمان سنوات مع إيران ، وهي من زينت له دخول الكويت لمعاقبته والتخلص منه ، وهي من أحضرت ما كان يسمى بالمعارضة العراقية التي تعلم جيداً إرتباطها بالمخابرات الإيرانية ، وهي من قدمت العراق على طبق من ذهب لإيران عن عمد لتمارس فيه كل أشكال الإنتقام والفساد والتخريب ، كما سمحت لها بإنشاء الميليشيات الطائفية المسلحة في لبنان وسوريا والعراق واليمن طمعاً في تحقيق الحلم الإمبراطوري القديم بوسيلة دغدغة المشاعر العربية والإسلامية تحت شعار براق هو تحرير القدس وإبادة إسرائيل في حين لم تقدم إيران شهيداً واحداً من أجل القدس وفلسطين .
أمريكا هي التي سدت أذنها وأغلقت عينها عن المال الأخواني القطري الذي يتدفق بسخاء الى حزب الله الشيعي في لبنان والى حماس السنية في غزة والى الأخوان المسلمين " تجمع الإصلاح " والشيعة الحوثيين في اليمن والجماعات الإسلامية المسلحة في ليبيا . وهكذا تحول شعار المقاومة الإسلامية لتحرير القدس الى شعار حقيقي لتدمير سوريا ولبنان والعراق واليمن وليبيا ، حتى أمسى لدينا فلسطينات بدل فلسطين واحدة . ولذا يكون محور المقاومة الإسلامية المخادع الذي يخفي وراء ظهره مشروع تمزيق المجتمعات الوطنية باعتبار " الوطن صَنَم يعبد من دون الله بحسب مرجعهم سيد قطب " فكان هذا أسوأ إنتاج أضَرَّ بالحل العادل لقضية العرب المركزية ( فلسطين ) ، وبفضله أصبحت إيران والمال الإخواني هما العدو الأول للدول والشعوب العربية وليس إسرائيل ، لأن سُلَّمْ العداء يتدرج منطقياً من الأقل خطورة إلى الخَطِرْ صعوداً إلى الأخْطَر .
الآن وبعد أربعة عقود ونيف تَشْرَع أمريكا بالانقضاض على الحلم الايراني والعمل على تفكيك ميليشياتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن ، وإجبار إيران للتراجع الى الداخل بعد أن تحققت لديها المعطيات السياسية والاقتصادية التالية على أرض الواقع :
أولًا - ( يَمَناً إيرانياً ) : عودة طالبان الجارة الشرقية لإيران سيخلق بؤرة أزمات كثيرة لها . أفغانستان على مدى العقود الماضية شَكَلَت مَسرَحًا لتنافس القوى العالمية والإقليمية ، ومن المتوقَّع بعد الانسحاب الامريكي السريع منها ، أن يتزايد دور القوى الإقليمية المتداخلة في أفغانستان ويتزايد معها التنافس ، وتُعَدُّ المملكة العربية السعودية على رأس القوى الإقليمية التي تعتبرها إيران منافساً خطيرًا لها في أفغانستان . ويجري الحديث في الأوساط السياسية الإيرانية عن ثمة روابط تجمع بين حركة طالبان والنظام السياسي والأمني السعودي بخصوص المشروع الإيراني للمنطقة ، وتنظر إيران إلى طالبان بوصفها أداة من أدوات السعودية لخوض التنافس الإقليمي . هذه النظرة الإيرانية تشير إلى أن السعودية بإمكانها أن تحصل بشكل أو بآخر على ورقة ضغط على إيران يمكن استخدامها في موازنة الملف اليمني . ويمكن ملاحظة الاهتمام بمثل هذا الاحتمال لدى مراكز صنع القرار السياسي في طهران والتي تُشير إلى إحتمال أن تُشكِل أفغانستان " يَمَناً إيرانياً " . ويبقى من المرجح أن تحاول المملكة العربية السعودية استخدام الورقة الأفغانية في إطار انتزاع امتيازات من إيران خصوصاً في الملف اليمني .
ثانيًا - ( إسرائيل على حدود إيران ) : أذربيجان ذات الأغلبية الشيعية ، هي دولة علمانية إلى حد كبير ، ومتطورة اقتصاديًا وتتمتع باقتصاد قوي متنوع . كما إنها حليف وثيق ومهم لإسرائيل وأمة شقيقة لتركيا . تشتري إسرائيل النفط الأذربيجاني وتشتري أذربيجان الأسلحة الإسرائيلية ، بما في ذلك تكنولوجيا الطائرات من دون طيار . وقد أدت حرب ناغورنو قره باغ الثانية التي دعمت فيها تركيا أذربيجان إلى إختلال كبير في ميزان القوة الإقليمية التي تشعر إيران تجاهها بالقلق . كانت أرمينيا دولة مفيدة حيث سمحت لإيران بالتجارة والوصول إلى أوربا ، لكن أذربيجان التي طردت أرمينيا من الشريط الحدودي مع إيران وضمته إليها تحاول الآن إغلاق هذه البوابة . طهران سعت بكل وسيلة في السابق إلى تصدير ثورتها إلى أذربيجان لكنها لم تحصد غير الفشل واليأس . وتنظر إيران إلى القومية الأذرية على أنها تهديد حقيقي لشؤونها الداخلية بسبب الأقلية العرقية الأذربيجانية الكبيرة التي تشكل ثلث سكان إيران ، والتي تنظر بعين ساخطة للنظام الداعم لأرمينيا عدو أذربيجان ، وتتخوف إيران كثيرًا من إثارة النزعة الانفصالية داخلها .
ثالثًا - ( الطوق التركي ) : أظهرت تركيا رغبتها مع بدء الانسحاب الامريكى في خوض غمار التنافس الإقليمي في أفغانستان ، من خلال محاولة أنقرة الوجود والسيطرة على مطار كابول . وأثبتت مجمل التطورات الإقليمية أن تركيا تحاول دائماً التواجد في البلدان المحيطة بإيران ، فهي تسعى لمزاحمة الوجود الإيراني في سوريا والعراق ، وتدخلت في أزمة مرتفعات قره باغ بالوقوف مع أذربيجان ضد أرمينيا حليفة إيران ، فتركيا فعليًا توجد بالقرب من الحدود الإيرانية الشمالية الغربية ، ولديها أيضاً وجود في منطقة الخليج عبر قاعدتها العسكرية في قطر ، وهي تحاول اليوم أن تكمل الطوق حول إيران من خلال تعزيز وجودها في أفغانستان . وترى مراكز البحوث والدراسات الإيرانية للتطلعات التركية في أفغانستان في إطار نزعة العثمنة لدى أردوغان للتوسع الإقليمي . وكذلك سيحمل الوجود التركي في أفغانستان تداعيات اقتصادية إلى جانب التداعيات السياسية ، إذ ستحاول تركيا مزاحمة إيران في الأسواق الأفغانية ما من شأنه أن يدعم موقع تركيا في خريطة بلدان حزام الطريق الصيني .
رابعًا - ( مشاكل حدودية ) : ستحصل باكستان التي ترتبط بعلاقات قوية بطالبان على ورقة ضغط على إيران ، بوصفها حركة تربطها بباكستان علاقات قوية على الصعيد الأمني والاجتماعي ، ما يرفع إحتمال توسيع نفوذها في داخل إيران خاصة عبر إقليم سيستان وبلوشستان .
خامسًا - ( تأزم اقتصادي ) : ينعكس الوضع الجديد في أفغانستان سلباً على أسواق الدولار في إيران ، إذ سَيُخرِج مدينة هرات التجارية التي استخدمت الحكومة الإيرانية نفوذها على مدى الأعوام الماضية في أسواقها من أجل السيطرة على أسعار الدولار في إيران من مدار النشاط والتأثير . كما سيؤثر الوضع الجديد في أفغانستان على ملف سدّ هلمند بوصفه أحد أهم الملفات الخلافية العالقة بين إيران وأفغانستان التي ستتمسك بمطلب النفط مقابل المياه ، خصوصًا وان إيران تعاني شحة كبيرة بالموارد المائية . أيضًا سيفاقم التشدد الأصولي المتطرف لطالبان عمليات اللجوء الى داخل إيران ، وهذا سيفاقم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها بسبب العقوبات الصارمة للولايات المتحدة الأميركية .