رواتب موظفي كوردستان و وهم التآخي في دولة متصدعة ..!
2020/11/27
 
377

رزكار نوري شاويس

العراق .. هذا البلد الذي تأسس ( في أجواء سياسات فرق تسد) بإرادة و عقلية الأحتلال الأجنبي و وفق مصالحه و أطماعه ، بقي من اللحظة الأولى لقيامه كدولة و الى يومنا هذا يعاني من الكثير من الشروخ و التصدعات في تكوين و بنيان مجتمعه الاثني و المذهبي المعقد. و برغم أنّ هذا البلد مرّ بالكثير من التغيرات و المنعطفات عبر تعاقب العديد من أنظمة الحكم على حكمه ، لم تتمكن أي منها ( بل لم تحاول بجدية و إخلاص وطني ) معالجة حالة التصدع المزمنة في بنية الدولة و مجتمعها . فهذه الحكومات بممارساتها و قوانينها الجائرة المنحازة لمذهب و قومية الحكام السائدة ، تسببت في إتساع الشروخ و الفجوات بين أطيافها القومية و المذهبية و بالتالي تداعي روح المواطنة و الانتماء لوطن مشترك لدى الأطياف المعرضة باستمرار للقهر و الاستبداد القومي و المذهبي .

ومع استمرار هذه السياسات العنصرية المنحازة و ترسيخها كمناهج و ايديولوجيات من قبل الحكام ، تحولت الى ثقافة و تراث حكم و ادارة دولة يتوارثها الخلف الجديد من السلف البائد من الحكومات .

و الكورد( القومية الرئيسية الثانية في نسيج المجتمع العراقي ) بأصالة منبتهم التأريخي و الجغرافي في بلاد الرافدين ، عانوا شديد المعاناة من أصناف منوعة من سياسات القهرالقومي و الأضطهاد العنصري في ظل غالبية الحكومات العراقية ( إن لم نقل جميعها) التي استحوذت على الحكم و على الأغلب على ظهور الدبابات .. فالتأريخ السياسي و الأجتماعي للعلاقة بين الكورد و الحكومات العراقية بكل تفاصيلها و وقائعها تؤكد على انه لا مبالغة و لا افتراء في هذا القول . و من الطبيعي جدا و كحق أساسي من حقوق الأنسان في الحياة أن يقف الأنسان أيا كان بالضد من من كل أشكال الظلم و الضغوط الجائرة الممنهجة التي يتعرض لها باستمرار ، و إنّ لجوء الكورد ( إضطرارا ) لأي رد فعل حتى لو كان عنيفا جاء دائما بمستوى ضغوطات الظلم عليه و من مواقف الدفاع عن وجوده و حقوقه كأنسان في هذه الحياة ، فمن حق كل انسان ان يدافع عن حقوقه بكل ماهو متاح له من سبل ..

لقد كان شعار ( الأخوة العربية الكوردية ) مطلبا حقيقيا لكافة القوى الوطنية التقدمية المتنورة في العراق ، و أمام هذا الموقف الوطني ( و كمرحلة لتعزيز و تثبيت سلطتها و سلطانها ) رفع كل نظام حكم جديد هذا الشعار (إفتراءً) ، فطبّلت و زمرّت له بحماس عبر وسائل إعلامها ، وفي الخفاء ومن وراء كواليس و دهاليز سياساتها الغاشمة و المعتمة كانت تخطط و تحضر للمزيد من القمع و الأضطهاد بحق الكورد و القوى الوطنية العراقية و ضرب و اجهاض مطلب و مشروع التأخي القومي العربي الكوردي .. حكومات تتابعت و منها تلك التي ادرجت في دستورها فعلا مبدأ الشراكة الوطنية الكوردية العربية في الوطن العراقي ، لكنها تحولت لواجهة براقة مخادعة خبئت ورائها الكثير من الخروقات البشعة لهذا المبدأ ، ليبقى مجرد شعارا بلا تفعيل و روح ، شعار يتجمل به النظام و هو مجرد حبر على ورق في دستور مؤقت قابل للتعديل بل و حتى الألغاء وفق مزاج الفئة الحاكمة أو بإرادة أية سلطة انقلابية جديدة . و هذا ما آل اليه حال دستور جمهورية (14 تموز ) المؤقت ، بل ان انقلاب السلطة الحاكمة انذاك سياسيا ثم عسكريا (سنة 1961) على هذا المبدأ و من بعدها حكومات الانقلابات التي تلتها ، اتخذ اتجاها عنيفا دمويا و بفهم فاشي عنصري ، فتعرضت كوردستان العراقية لأشرس الحملات العسكرية و اقبح و أخس المؤامرات الخبيثة لتبلغ في عهد الحكم الصدامي الاجرامي الى حملات ابادة جماعية لمواطني كوردستان بالاسلحة الكيمياوية وترحيلهم قسرا و كأسرى حرب من مناطق عيشهم و سكناهم الى صحاري الجنوب العراقي النائية لقتلهم هناك( كبارا و صغارا ، و ذكورا و اناثا ) رميا بالرصاص و دفنهم في قبور جماعية ، فقط لأنهم كانوا كوردا .

نعم ، فكل نظام أمسك بزمام البلد لم يرفع في بدايات توليه السلطة شعار الأخوة العربية الكوردية إيمانا به كمبدأ شراكة وطنية عادلة و كعقيدة و منهاج لبناء و تعزيز وحدة صف ابناء الشعوب العراقية و مذاهبها كلبنة الاساس لدولة متماسكة .. بل استخدمت الشعار كتكتيك مرحلي لحين استتباب امورها و اشتداد قبضتها على الحكم و من ثم الأنقلاب على جوهر هذا المبدأ بكل صلافة و شراسة و لتكشف كسابقاتها من انظمة الحكم العراقية عن خلقها الفاشستي العنصري و بأبشع صور القمع و الأستبداد التي تفضح حقيقة تكوينها اللاحضاري المتخلف كمؤسسة حكم همها الاوحد الاحتفاظ بالسلطة و ليس بناء مجتمع يتعايش بانسجام في بلد مزدهر يسع الجميع .. حكومات لم تدخر جهدا في بث و تربية روح العداء و التفرقة بين اقوام و طوائف البلاد ..!

أن قرار البرلمان العراقي يوم (14تشرين الثاني 2020) بحجب و عدم صرف رواتب كافة الموظفين في اقليم كوردستان – العراق ، يأتي كنسخة مكررة من نفس الأجراء الذي اتخذه حكم صدام الدكتاتوري بحق شعب كوردستان من سنة 1991 و لغاية سقوط نظامه سنة 2003 ، قرار البرلمان العراقي هذا يذكرنا ايضا بكل الاجرائات التعسفية العنصرية التي مارستها الحكومات العراقية ضد المواطنين الكورد في البلاد ، هو قرار تعسفي و عنصري النزعة ، لا يمكن ادراج طبيعته و صنفه الا في قائمة الضغوط العدائية المستمرة ضد اقليم كوردستان و كافة المواطنين فيه من الكورد و غيرهم من ابناء القوميات المتعايشة في الأقليم .. إجراء شوفيني بحت ، يضاف كحلقة اخرى في سلسلة الضغوطات و اجرائات الحرب النفسية و الأقتصادية المعاشية ضد كوردستان العراق و شعبها بتحريك و أوامر من جهات تملك سلطان التأثير على قرارات بغداد .

لا أقول أن هذا القرار البرلماني العراقي يبعث على السخرية ( البرلمان الذي يرفض تشكيلته الطائفية الغالبية العظمى من ابناء العراق) لكنه بكل تأكيد يثير الأستغراب كونه يعد اهانة لبرلمان المفروض فيه و المطلوب منه ان يكون ديمقراطيا عادلا بقراراته و تشريعاته التي يجب ان تصب لصالح المجتمع بكل اطيافه ، لكن قرار عدم صرف رواتب الموظفين في اقليم كورستان لا يمكن تبريره و وصفه بأكثر من اجراء شوفيني مرّر بأستغلال و استغفال سلطة ديمقراطية .

هذا القرار لم يأت اعتباطا ، بل له جذور عميقة تتوغل عبر كل تأريخ ثقافة الحكم ومن بيده السلطة في العراق .. أجراء لا ديمقراطي ، سياسي متعصب و عنصري و استثمار قوة الأكثرية لسلب حقوق الأقلية ، اجراء متخلف طائفي النزعة تبناه تكتل برلماني مشبوه بارتباطاته و ولائه لغير العراق و أبناء العراق .. قرار ليس سوى طبخة فاسدة و مفسدة لضرب الوحدة الوطنية العراقية ، هُرِبّتْ وصفتها الخبيثة من وراء الحدود. فأين اذن تكمن المصلحة الوطنية العراقية من هكذا قرارات تصدر بإيعازات من غير أهل العراق ؟!!

هذا الاجحاف و التفريق في حقوق و استحقاقات المواطنين حسب انتمائاتهم القومية و المذهبية ، لا يخدم بأي شكل من الأشكال متانة و تماسك بنيان التعايش و التأخي في وطن مشترك و الذي لبنته العدالة و المساواة في الحقوق و الواجبات و عدم تسلط و استبداد ما يعرف بالمذهب و القومية السائدة و تنمرها على الاقليات و حجب حقوقهم و استلابها .

إن حق الموظف في راتبه استحقاق قانوني لا يجوز المس به الا في حالات فردية جنائية محددة ، لكن قرار قطع رواتب كافة الموظفين في اقليم كوردستان لا يمكن وصفه الا بالقرار العدائي و ( القمع الجماعي ) لآلاف الموظفين و الموظفات و اسرهم الذين تعد رواتبهم مصدر رزقهم و عيشهم ..

و هكذا و في مواجهة مثل هذه المواقف الحاقدة الشاذة و القرارات المستبدة ، لا يمكن وصف احوال العراق الا بالمتدهورة وانها ليست بخير ، و في هكذا أجواء مشوبة بالكراهية والحذر و انعدام الثقة و التآمر و التلاعب بقيم الديمقراطية و اصول التعامل معها ، لا يمكن ( ان لم يكن من المستحيل ) بناء علاقات شراكة و اخوة عادلة و حقيقية بين كافة اطياف المجتمع العراقي ، فمثل هذه السلوكيات الحاقدة ستزيد و تزيد من امتداد و اتساع الشروخ و التصدعات في بنيان العراق دولة و شعبا ..


الاستبيان
برأيك ايهما افضل؟