(جريذي) في بغداد !!
2020/07/23
 
357
حسين الذكر


في ظل الحروب والحصار والارهاب والقتل والدمار والفساد ... الغارق بها بلادي منذ عقود وسنين ، لم اركب القطار منذ مدة ، وقد استقليته  قبل مدة  بمناسبة ما .  في الالفية الجديدة وبعد عقد من اندحار الدكتاتورية ، وفي عصر الانفتاح والانترنيت والفيس بوك والموبايل .... واخواتهما التي تفجرت من رحم العولمة ، كنتاج طبيعي للقاح الكومبيوتر بتقنيات الاتصال . 
كنا نجوب محيط العاصمة بغداد متجهين صوب محافظاتنا العزيزة ، نطالع الافق ، لعله ينبئنا بواقع افضل ، حينما داهمتنا صور الازبال والانقاض والتبعثر والادغال والعشوائية ... على جانبي الطريق ، لنذهل مما غلفه واحاطه ، من تخلف حضاري ، يجهش لمنظره اي  واع بضمير حي ، وقد تالمنا بقسوة لواقع لم يوقظنا فيه ، الا دوي صراخ الاطفال ، وهم يقذفون عربات القطار الجديد ، بكل همجية الجاهلية او دون ذلك .. حيث سمعنا تهشم الزجاج يخالط السباب والشتام والضحك ، لاطفال وصبية بعد سنوات سيكونوا امناء على مستقبل وطن ، تنطلق فيه مقذوفات حاقدة لهدم حصونه واقتلاع اسس حضارته  ..

حقا شر البلية ما يضحك ،روى احدهم قائلا : ( تخرجت من جامعة بغداد ، بمعدل جيد جدا ، منذ  سنوات لم اتوظف  ، برغم تقديمي لاغلب المؤسسات ، عبر الانترنيت والعلاقات والواسطات والدعاء ... لم تشفع كلها ، مع حسن سلوكي ومواطنتي. وفيما كنت اعمل مرغما ( باحدى البسطيات  ) على جادة الرصيف ، داهمتني شفلات وعجلات البلدية ، التي اتخذت قرار بازالت كل الباعة المنتشرين على الطرق ، بسبب سوء الاوضاع والفقر والعازة وغياب التخطيط والتعيين المركزي ، وقد صدمت حقا حد البكاء ، حينما وجدت نفسي وعيالي واهلي  على حافة المجهول ، وقد غرقت بالتفكير وانهمر دمع الصبر خفيا يحرقني ، يجول خاطري بدهاليز مستقبل نتن وضياع ، في عراق لا تختلف ديمقراطيته عن دكتاتوريته ، الا بالشعارات والدعايات ، سيما ما يعني الفقراء منها .
 بهذه الاثناء اتصل احدهم ، قائلا ،  : ( عمي انت حيدر سبق لك ان قدمت  على وزارة التربية ).. فتنفست الصعداء ، قائلا  : ( نعم استاذ ) !! ، فاردف : ( فايلك احمر به ستة صور ) !! كاد قلبي يقفز من الفرحة ، ( نعم استاذ الله يحفظك ) ، فقال انت خريج جامعة بغداد ومعدلك جيد جدا وبيتكم في العشوائيات ) ، عندها انهمر دمع الفرح وانقطع صوتي  ..( نعم استاذ .. نعم استاذ .. نعم استاذ ... لم اتمالك نفسي ولو كان قربي لقبلت يديه وقدمه ) . لم يمهلني طويلا حتى فاجئني قائلا : ( عمي لخبطتني ... استاذ واستاذ .. انا مجرد منظف في الوزارة ،وقد وجدت فايلك ، مرمي بالقمامة وفيه رقم هاتفك ، فقلت ابلغك احسن ) .

في عناء طريق ومشاق يوميات معتادة ، جلسنا في شارع السعدون نحتسي الشاي بعد وجبت غداء عراقية ، ينبعث منها عبق التاريخ حد الثمالة ، لينسيك حرارة صيف وبرد وطين شتاء ومتاعب لا تعد ولا تحصى ...  حينما قفز امامنا ( جريذي )  : ( مِنْ فَصِيلَةِ الْفَأْرِيَّاتِ ، أَسْوَدُ العَيْنَيْنِ ، آذَانُهُ مُسْتَدِيرَةٌ ، وَذَنَبُهُ طَوِيلٌ ، أَضْخَمُ مِنَ الفَأْرِ ، بِأَطْرَافِهِ خَمْسَةُ أَصَابِعَ ، يُطْلِقُ عَلَيْهِ العَامَّةُ في العراق خاصة كلمة  جريذي ) .ُ
خرج بغير زمكانه ، فوجد نفسه وسط جمهرة الناس ، كلهم هبوا يطاردوه بالاقدام والركلات والسباب ... ، لم يبق احد الا وتطوع لقتله حتى مات كمدا ، مع انه لم يؤذ اي من قاتليه .. هذا المشهد ، ذكرني بموقف صادفته بالهند ، حينما كنت اتمشى في شوارعها المزدحمة بالناس والحيوانات ، جنبا الى جنب ، حيث الانسان والكلب والبقرة والقطة .... وحتى الخنازير ، تنعم بالامان، لا تهاجم ولا يهاجمها احد ، تعايشوا حد الاطمئنان . فلم اتعجب ، حينما شاهدت افعى اوشكت تدخل فندقنا المحاط بالادغال والغابات ، وفيما صرخنا تاهبا لقتلها ، جاء احد عمال الفندق البسطاء وتعاطى معها باحترافية وهدوء وطمانينة بعصى كانت بيده ، حتى لفها عليها ، ونقلها الى الاحراش البعيدة تذهب حيث تشاء . فسالناه بتعجب ، لماذا لم تقتلها؟ ، قال : ( لم القتل ، انها لم تهاجمني ولا تنوي ذلك ) .عند ذاك ادركت ما حدث ويحدث في عراقنا الدكتاتوري او الديمقراطي او تحت اي عنوان كان .
الاستبيان
برأيك ايهما افضل؟